الاثنين، 7 ديسمبر 2020

دراسة نقدية قيمة من الناقد الدكتور حازم الصبيحي/ للشاعرة زكية أبو شاويش ( كلام الناس)

دراسة نقدية قيمة من الناقد الدكتور أبو الطيب حازم الصبيحي
لقصيدة الشاعرة Zakia Abu Shawish
(كلام الناس)

الصِبغة الفنيّة في المعارضة الشعرية

لقد عُرفت المعارضات الشعرية منذ القِدم في الشعر العربي، والمطّلع على تاريخ الأدب العربي يمكنه تلمّس ذلك منذ العصر الجاهلي، وقبل أن نفصل ذلك علينا أن نتعرف على ماهية المعارضة الشعرية..
• لغويًا: نجد أن كلمة "معارضة" تُعرّف على أكثر من وجه، فعندما أقول: عارضت صديقي بالمسير؛ أي سرت ومشيت حياله، وأيضًا هي تعني المقابلة، وأيضًا لو قلنا مثلًا: فلان عارض فلانًا بمثل ما صنع؛ أي أنه أتى بمثل ما فعل، وهذا ما يعنينا هنا.

• أما اصطلاحًا فإننا نعرّف المعارضة الشعرية بأنّها: (نظم شعرٍ موافق لشعرٍ آخر في موضوع معين، حيث يلتزم نظم الشعر الآخر في قافيته، وبحره، وموضوعه التزامًا تامًا، يحرص فيه الشاعر على مضاهاة الشاعر المعَارَض في شعره -إن لم يتفوق عليه-).
وقد يلجأ الشاعر إلى هذا النوع من الشعر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معبرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب.
هذا هو التعريف العام للمعارضة، ولكنه تطوّر كتطور ألوان الأدب.
إذن فالمعارضة الشعرية مصطلح أدبي متعارف عليه، واشتهر بين الشعراء منذ العصر الجاهلي، فنجد معارضة "عمر بن أبي ربيعة" لقصيدة "جميل بثينة"..
ثم ازدادت شهرة المعارضات في العصر العباسي؛ حيث نجد معارضة "صفيّ الدين الحِلّي" لشعر "أبي الطيب المتنبي"..
وازدهرت المعارضات كثيرًا في العصر الحديث، وكان من أبرز من كتبها هو أمير الشعراء "أحمد شوقي" في معارضاته لقصيدة "البحتري"، وأيضًا معارضته لقصيدة "ابن زيدون" التي اشتهرت جدًا، ولكن تبقى رائعته الخالدة في معارضة "الإمام البوصيري" بنهج البُردة.
ومع بروز شعر المعارضات بين القدماء، والمحدثين، وتنافسهم فيما بينهم تنافسًا كبيرًا؛ ليظهر كل شاعر بشعره على الآخر، مما كان له آثار عظيمة في التراث الأدبي، نذكر منها ما يأتي:

• تجاوز مرحلة التقليد، والانطلاق إلى سياق الإبداع والابتكار؛ فقد فاق بعض المعارِضين فيما نظموه مَن عارضوهم من الشعراء، من حيث الأسلوب، والدلالات، والمضمون.
• إذكاء روح التنافس بين الشعراء النبهاء لعرض قدراتهم في ميادين الشعر؛ مما جعل رياض الأدب خصبة بالفرائد، والنوادر؛ ليشيّدوا بذلك صرحًا أدبيًا عظيمًا يصور المعنى الحقيقي لمقولة (الشعر ديوان العرب).
• المحافظة على التراث الشعري القديم، والحديث عبر مر العصور؛ بما أضافه شعر المعارضات من صفحاتٍ ناصعة إلى ديوان الشعر صبَّت جميعها في بحر الأدب العربي فأثرته أيّما إثراء.

ومع هذا التحرر الذي لا يقيّد الشاعر المعارِض بالالتزام بكل أدوات المعارَض -من وزن وقافية وموضوع-، فقد برع الكثير من الشعراء في عصرنا هذا في كتابة شعر المعارضات...

وهنا نتعرض لمثال رائع لهذا اللون الأدبي الجميل...
عندما نشرع في قراءة قصيدة (كلام الناس) للشاعرة "زكية أبو شاويش"، والتي هي معارضة شعرية بارعة لقصيدة رب السيف والقلم "محمود سامي البارودي"، -والذي قد كتب في شعر المعارضات-، والقصيدة على البحر البسيط بتمامه ورونقه البهيّ، والقافية البائية شديدة الانفجار.

منذ عتبة النص الأولى -العنوان- نجد أن الشاعرة قد أهمّت نفسها وحملتها على مناقشة القضايا المجتمعية، وهكذا يكون الغرض الشعري المؤثر بما يحمله من قيمٍ ونصائح.
تتجلى الثقافة الفلسفية عند الشاعرة؛ ما جعل الحكمة تنساب على لسانها، حيث تستهل قصيدتها قائلةً: (من جالَ في خطرٍ أو خاضَ في رهبِ _ لم يأمنِ القتلَ مِنْ قالٍ ومن غضبِ)، وما أروعه من استهلال يتفجر بحكمة مثالية؛ ولأن الحكيم أولى بالنصح، فنجد الشاعرة الحكيمة تردف في بيتها الثاني ناصحة أمينة، حيث تقول: (إلزم حدوداُ لكلِ السَّامعينَ هنا _لا تعتدي بمقالٍ غصَّ لم يجب)، وهنا أنصحها بحذف الهمز من فعل الأمر (الزم)، وحذف العلة من فعل النهي (تعتدي)...
وتتوالى مواطن الحكمة والنصائح كلؤلؤات متراصة، بجماليات البيان وروعة المعنى، وحسن السبك..
ثم ندرك بيتيها الأخيرين حيث تقول:
(صلاةُ ربي على المحمودِ في خُلُقٍ_ حدَّ الحدودَ فلا جورٌ على أدبِ
صلُّوا عليهِ فقد حاقت بِهِ تُهمٌ _ كانت براءتها تعلو على السُّحبِ)
والمتأمل هنا يجد أن هذين البيتين ليسا محض خاتمة لقصيدة كتبتها شاعرة عادية، إنما هما من أجمل الخواتيم؛ حيث أن الشاعرة تثبت براعتها بأن تدلل لقارئها أن مرجعها في نصائحها له أن ينأى بنفسه عن (كلام الناس) والتهم الباطلة بأن يتبع سيد الخلق وحبيب الحق في ذلك،
وعليه تثبت الشاعرة "زكية أبو شاويش" أنها الشاعرة الحكيمة...

وهنا أدعوك عزيزي القارئ للتمعن في جماليات هذه القصيدة الرائعة:

كلام الناس

من جالَ في خطرٍ أو خاضَ في رهبِ _ لم يأمنِ القتلَ مِنْ قالٍ ومن غضبِ
إلزم حدوداُ لكلِ السَّامعينَ هنا ___لا تعتدي بمقالٍ غصَّ لم يجب
لكلِّ غصنٍ شموخٌ في منابتهِ _ لا تقصفِ الغصنَ إن تعلوهُ في نسبِ
لكلِّ حرقٍ دخانٌ قد يناسبُهُ _ يعمي عيونَاً لمن قد مالَ من حسبِ
لا للكلامِ مع الأغرابِ في ثقةٍ ___أنَّ القويَّ يردُّ القولَ في لجبِ
لا قوةٌ تتعالى فوقَ من عرفوا ___أنَّ الضَّعيفَ يسود النَّاسَ من أدبِ .......................
سقطُ الكلامِ عن الآكامِ مرتفعٌ _ يهمي لضعفٍ إذا ما جاءَ بالكذِبِ
كُن كالغزالِ جميلاً إن يصادفُهُ _ سربٌ من النّوقِ قد يهوى بلا أربِ
حلو الشَّمائلِ لا يزري بِهِ أحدٌ _ لا يستهينُ بمن يمضي معَ اللَّعِبِ
لكنَّهُ حذرٌ ممَّن يجالدهُ _ بالقولِ ،والفعلٌ لا يرضى بمنسحبِ
إنَّ الكلامَ كفرطِ الثّوبِ في شرفٍ ___يزيدُ مِنْ غضبٍ إن كانَ من ذّنَبِ .......................
للحقِّ جُندٌ وبطشٌ قد يلازمُهُ ___والخوضُ في شرفٍ قد جرَّ للوصبِ
كم عاثَ من أسرفوا في تهمةٍ قصمت _ طُهراً تراجعَ من قتلٍ لمنكربِ
ما أظلم الخلقَ في ترديدِ شائعةٍ ___تجني بحرقٍ على برءٍ من الجَرَبِ صلاةُ ربي على المحمودِ في خُلُقٍ___ حدَّ الحدودَ فلا جورٌ على أدبِ صلُّوا عليهِ فقد حاقت بِهِ تُهمٌ _ كانت براءتها تعلو على السُّحبِ

هذه مشاركتي المتواضعة :
قال الشَاعر / محمود سامي البارودي
قَالَتْ وقَدْ سَمِعَتْ شِعْرِي فَأَعْجَبَها
إِنِّي أَخَافُ عَلَى هَذَا الغُلامِ أَبِي
معارضة بعنوان :
كلام النَّاس _______________________________البحر : البسيط
من جالَ في خطرٍ أو خاضَ في رهبِ ___ لم يأمنِ القتلَ مِنْ قالٍ ومن غضبِ
إلزم حدوداُ لكلِ السَّامعينَ هنا ___لا تعتدي بمقالٍ غصَّ لم يجب
لكلِّ غصنٍ شموخٌ في منابتهِ ___ لا تقصفِ الغصنَ إن تعلوهُ في نسبِ
لكلِّ حرقٍ دخانٌ قد يناسبُهُ ___ يعمي عيونَاً لمن قد مالَ من حسبِ
لا للكلامِ مع الأغرابِ في ثقةٍ ___أنَّ القويَّ يردُّ القولَ في لجبِ
لا قوةٌ تتعالى فوقَ من عرفوا ___أنَّ الضَّعيفَ يسود النَّاسَ من أدبِ
.......................
سقطُ الكلامِ عن الآكامِ مرتفعٌ ___ يهمي لضعفٍ إذا ما جاءَ بالكذِبِ
كُن كالغزالِ جميلاً إن يصادفُهُ ___ سربٌ من النّوقِ قد يهوى بلا أربِ
حلو الشَّمائلِ لا يزري بِهِ أحدٌ ___ لا يستهينُ بمن يمضي معَ اللَّعِبِ
لكنَّهُ حذرٌ ممَّن يجالدهُ ___ بالقولِ ،والفعلٌ لا يرضى بمنسحبِ
إنَّ الكلامَ كفرطِ الثّوبِ في شرفٍ ___يزيدُ مِنْ غضبٍ إن كانَ من ذّنَبِ
.......................
للحقِّ جُندٌ وبطشٌ قد يلازمُهُ ___والخوضُ في شرفٍ قد جرَّ للوصبِ
كم عاثَ من أسرفوا في تهمةٍ قصمت ___ طُهراً تراجعَ من قتلٍ لمنكربِ
ما أظلم الخلقَ في ترديدِ شائعةٍ ___تجني بحرقٍ على برءٍ من الجَرَبِ
صلاةُ ربي على المحمودِ في خُلُقٍ___ حدَّ الحدودَ فلا جورٌ على أدبِ
صلُّوا عليهِ فقد حاقت بِهِ تُهمٌ ___ كانت براءتها تعلو على السُّحبِ
........................
السَّبت 20 ربيع الآخر 1442 ه
5 ديسمبر 2020 م
زكيَّة أبو شاويش _ أُم إسلام

هناك تعليق واحد: