الأحد، 7 أكتوبر 2018

" الأرجوحة " ؟؟!! قصة قصيرة بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونة ) -------------------------- *** ( آخر ما جادت به قريحة الكاتب ؛ ولم يسبق نشر النص من قبل ). إهداء متواضع : إلى الأستاذة الراقية الأديبة المبدعة المتألقة ( هيفاء البريجاوي ) التي أوحت لي بفكرة النص .. ( الكاتب ) ----------------------- " الأرجوحة " ؟؟!! ... لا زلت أذكر تلك " الأرجوحة " البدائية القديمة التي كنا نلهو بها عندما كنا أطفالًا صغارًا . " العم محمود " .. ذلك الجار الطيب الطاعن في السن ؛ كان يحلو له دومًا أن يجمعنا - أطفالًا صغارًا - فنتحلق من حوله وهو يجلس على الأرض الرملية .. يتكئ على جانبه الأيمن مرة ؛ وعلى جانبه الأيسر تارة .. ثم لا يلبث يعتدل في جلسته .. حركاته " الاستفزازية " تلك ؛ لم تكن سوى مناورة مقصودة من جانبه ؛ يقصد بها زيادة جرعة التشويق التي أخذت تستبد بنا .. .. لا يلبث الرجل الكهل أن " يتنحنح " ثم " يسعل " بشدة وبشكل متواصل " مفتعل " ... يعدل من جلسته ؛ ثم يأخذ بالنهوض التدريجي من مكانه .. بشكل أشبه ما يكون " بالتصوير البطيء " الذي لم يكن معروفاً في حينه بعد .. بينما العيون من حوله جاحظة متأهبة لمشاهدة الحركات التي سوف تعقب تلك الحركات " شبه المسرحية " والتي كان يقوم بها الرجل الكهل . .. يعدل الرجل من هيأته وقامته ( شبه المنحنية أصلاً ) .. ينظر نحونا ( نحن الأطفال ) بابتسامة عذبة ساحرة .. وكأنه يستفزنا ليثير انتباهنا ويستحث تأهبنا ؛ تأهبًا للبدء بالحركة التالية التي كنا نترقبها بفارغ الصبر . .. يسير الكهل بخطواتٍ وئيدة صوب تلك الشجرة الكثيفة الضخمة .. " شجرة الجميز " التليدة .. ويبدأ بالمهمة اليومية المعتادة والمحببة التي كنا نترقبها بنهم وسعادة . .. لا يلبث أن يتناول ذلك " الحبل " السميك المتين ؛ ثم يأخذ بالصعود .. فوق الشجرة ؟؟!! . .. فرغم أن الرجل كان طاعنًا في السن ؛ إلا أنه كان خفيف الحركة .. خفيف الوزن ؛ فكان من السهل عليه أن يتسلق جذع " شجرة الجميز " الضخمة - خاصة وأنه قد أصبحت لديه خبرة عريضة في هذا المجال - وهو يحمل " الحبل السميك " ويتجه ناحية ذلك الفرع الضخم المرتفع الذي كان الرجل قد تعود على أن يقوم بربط الحبل فيه وبشكل فني ودقيق ومتقن .. ولا يلبث ِأن يأخذ بالهبوط السريع من فوق ذلك الفرع السميك المرتفع وقد اختار الطريقة الأسهل والأيسر للهبوط وبحركة بهلوانية .. وقد استعمل " الحبل السميك " المتدلي حتى الأرض .. وما إن يهبط على الأرض حتى نأخذ ( نحن الأطفال ) بالتصفيق الحاد له ؛ ولا يتورع بعضنا عن الغناء وآخر عن الرقص . يندفع الرجل ناحية ذلك " اللوح الخشبي " الضخم ؛ ثم يتناوله بحركة بهلوانية رائعة رشيقة .. ثم يبدأ بلف " الحبل " بحركات بهلوانية حول أطرافه من كلا الجانبين ؛ فإذا ما تم له ذلك .. وقف مبتسمًا ضاحكًا منتفخ الأوداج وكأنه يعلن انتهاء " المهمة العويصة " والإعلان بأن " الأرجوحة " قد أصبحت جاهزة للمهمة بشكل جيد . .. ما إن تيقن الأطفال من الأمر .. حتى راحوا يتدافعون نحو " الأرجوحة " ويتسابقون من أجل الجلوس على " اللوح الخشبي "؟؟!! . .. فإذا ما لاحظ الرجل تدافع الأطفال وتسابقهم وصراخهم ومشاجراتهم .. تركهم على هذه الحالة لبعض الوقت دون أن يتدخل في الأمر .. فإذا ما حمي وطيس المعركة واشتد النزال والصراخ والعراك ؛ سارع للتدخل " بفك الاشتباك " متعدد الأطراف .. وراح يحاول تهدئة الأمور والسيطرة على الموقف .. فإذا ما تمكن من ذلك - بعد لأيٍ شديد - ..طلب من الجميع التزام جانب الصمت والهدوء ؛ وهددهم إن لم ينصاعوا للأمر فإنه سوف يقوم بفك " الأرجوحة " وعدم السماح لهم بالاستمتاع بمتعة " التأرجح " عليها . والحال كذلك ؛ لا يسعنا – نحن الأطفال – سوى الانصياع للأمر والتزام جانب الصمت والهدوء .. فإذا ما تمت السيطرة على الأمور وبشكل جيد .. طلب منا أن نصطف في طابور واحد منتظم .. على أن يكون الطفل الطويل في مقدمة الطابور .. والطفل القصير في المؤخرة ؟؟!!.. وذلك عكس الأمر المتعارف عليه ؟؟!! . .. للرجل العجوز فلسفته الخاصة بهذا الشأن .. فما إن يصطف الأطفال حسب أوامره ( الطويل قدام والقصير ورا ) حتى يأخذ بتفقد أحوال الطابور والتأكد من أن الأمور تسير بشكل جيد حسب الأمر ؟؟!! . فإذا ما تأكد من ذلك ؛ توجه ناحية نهاية الطابور ( حيث الأطفال الأكثر قصرًا ) ؛ فيأخذ بيد الطفل الأكثر قصرًا ويجلسه بنفسه على اللوح الخشبي .. ثم يتوجه ناحية بداية الطابور - حيث الأطفال الأكثر طولًا - .. ويطلب من طفل - وهو أطولهم - .. أن يبدأ في عملية " التأرجح " للطفل الذي كان يجلس على اللوح الخشبي .. ثمة أغانٍ وأهازيج خاصة كان يرددها الرجل ويكررها الأطفال من ورائه بحبور وسعادة .. ولا يتوقف هذا ولا ذاك سوى لبعض ثوانٍ يكون فيها قد أنهى الطفل - مكرهًا - " الشوط " الخاص به بـ " التأرجح " كي يحل محله طفل آخر .. وهكذا دواليك .. .. لا زلت أذكر وبشكل جيد ذلك اليوم ( البعيد القريب ) الذي كنت أقوم فيه بالجلوس على " خشبة الأرجوحة " وكان من نصيبي أن أكون أول من أتيحت له الفرصة للتمتع بذلك - نظرًا لأنني كنت الأصغر والأقصر - . يبدو بأن " الطفل " الأكثر طولًا والذي كان يتولى القيام بمهمة دفع " خشبة الأرجوحة " .. يبدو بأنه كان قويًا بما فيه الكفاية ؛ فكان يدفع " اللوح الخشبي " بشدة وقوة وعزيمة ؛ مما أدى في النهاية إلى تطوحي في السماء عاليًا ومن ثم السقوط على الأرض بقوة ؟؟!! . ما إن سقطت على الأرض الترابية ..حتى سارع الرجل الكهل والأطفال نحوي يتفقدونني ويحاولون نجدتي ومساعدتي خشية أن يكون قد أصابني مكروه .. ولكن قبل أن يصلوا ناحيتي ... كنت أنهض من مكاني عن الأرض وأنا أضحك وأقهقه .. وأنفض الغبار والتراب عن ثيابي ووجهي وجسدي .. فلم تكن الأرض صلبة ... فقد كانت ترابيه .. ولم ألبث أن عدت سريعا لتكملة " شوطي " .. واعتليت خشبة " الأرجوحة " من جديد ؟؟!!! . *** قبل عدة أيام .. أصر ولدي الوحيد إلا أن أصحبه لإحدى متنزهات وألعاب الملاهي المنتشرة في المدينة ... ولما كان هو ولدي الوحيد .. المدلل .. ولما كان قد ألح عليّ بالطلب وألحف بالسؤال ... لم أجد مناصًا في النهاية سوى تلبية مطلبه ... مدينة ألعاب الملاهي تلك ؛ كانت تعج بالزوار من مختلف الأطياف والأعمار .. الذين كانوا يرتادون متنزه الألعاب والملاهي بقصد التنزه والترويح عن النفس وتمضية الوقت في اللهو والمرح . المظهر الأكثر شيوعًا ... كان تلك الألعاب الإلكترونية العديدة .. خاصة تلك العملاقة ... ومنها ما هو خطير ومنها ما هو أخطر .. والتي كان يقبل عليها الكثيرين بقصد المغامرة والتسلية وكسر حاجز الرعب والخوف .. بدوري ؛ وبطبعي ؛ فقد كنت لا أميل لتلك الألعاب الكترونية المخيفة .. شاهقة الارتفاع .. لما فيها من ضروب المخاطرة والمجازفة .. ولدي الوحيد ؛ كان جذلًا سعيدًا فرحًا بمشاهدة كل تلك الألعاب الإلكترونية الرائعة ... وراح يلح عليّ بأن يكون أحد رواد تلك " الأرجوحة " الضخمة العملاقة .. دائرية الشكل .. شاهقة الارتفاع .. كبيرة الحجم . بذلت قصارى جهدي أن أثنيه عن عزمه ... أن أرفض مطلبه ذلك .. لأنني لم أكن مرتاحًا لمثل تلك الألعاب الخطيرة ... رغم أن أصحابها – ومن باب التسويق – كانوا يدعون بأنها مؤمنة بشكل جيد .. ولا يمكن أن يحدث لمرتاديها أي خطر .. فهي خالية من العيوب تمامًا .. لست أدري سر استماتة ولدي في تلبية مطلبه ذلك .. رغم نصائحي المتتالية له ورفضي الشديد لتلبية مطلبه .. إلا أنه كان يزداد إصرارًا وعناداً وإلحافًا في الطلب ... مما جعلني في النهاية أستسلم بالموافقة على مطلبه على مضض. قلبي كان معلقًا في السماء .. يخفق بشدة وأنا أتابع حركات تلك " الأرجوحة " الوحشية .. بينما كان ولدي سعيدًا بالأمر .. يشارك الآخرين بالضحك .. ويقهقه .. .. ودارت " الأرجوحة " عدة دورات متتالية وبشكل سريع .. شعرت خلالها بأن قلبي قد توقف عن الوجيب والخفقان.. وشعرت بالدوار والغثيان الشديد ... ولم أعد أرى الأشياء سوى أشباحًا فحسب . ... الصراخ والضجيج كان سيد الموقف في المكان .. كان تداخل الأصوات غريبًا .. ما بين ضحكات وقهقهات .. وصراخ ونداءات .. لم أتنبه سوى على أصوات تدافع المشاهدين من الرواد وتزاحمهم ؟؟!!.. تساءلت في نفسي عن سر هذا وذاك ولكني لم أعثر على الجواب الشافي .. وجدتني أقلد الجميع - بحركة لا إرادية - في الهرولة نحو مكان التجمع الكبير .. وجدتني أزاحم المتحلقين في المكان .. أحاول أن أفسح لنفسي مكانًا أستطيع من خلاله مشاهدة ما حدث .. .. الطفل ؛ كان مسجي على الأرض الحجرية الصلبة بلا حراك ... أنكرت معرفته .. هممت بالمغادرة .. لولا أن تناهى لمسامعي صوت واهٍ حسبته يأتي من داخل القبور أو من وراء الجبال : " بابا " ؟؟؟!!... هيئ لي بأنه صوته .. صوت ولدي الوحيد .. اقتربت من الطفل المسجى على الأرض ... اقتربت منه أكثر فأكثر ... مد بيده الواهية نحوي .. كان وكأنه يستنجد بي ؟؟!!.. فتح عينيه المجهدتين المتورمتين النازفتين .. أعاد النداء مرة أخرى : " بابا " ... سقطت يده إلى جانبه ... أغمض عينيه .. أقفل فمه .. وسكنت حركاته ... قبل أن يغمى عليّ تمامًا ... سمعت أحدهم يتمتم : " لقد مات الطفل ... لقد سقط من " الأرجوحة " .. ويبدو بأن الرجل هو أبيه ؟؟!! " .. .. بما تبقى من قوة واهية وتفكير مضطرب .. عاد المشهد القديم القديم إلى ذاكرتي .. يوم سقطت على الأرض من فوق " الأرجوحة البدائية " .. ولحظة أن نهضت من مكاني وأنا أمسح التراب والغبار عن وجهي وجسدي وثيابي .. ... رحت أتمتم كالهذيان ؛ بينما كانت عيناي تدور في محجريها : " سوف ينهض ولدي الآن ... سوف يقوم بنفض التراب والغبار عن وجهه وجسده وثيابه .. وسوف يعود بسرعه ليصعد إلى " الأرجوحة " ليكمل شوطه ؟؟!! " ... تمتم أحدهم : " يبدو بأن الرجل قد جُن " ؟؟!!...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق