الجمعة، 17 أبريل 2020

من كتاب   /سياده والحياة 
الجزء الأول / سيادة التحدي 

لسقراطة الشرق
 سياده العزومي
 عضو اتحاد الكتاب 
 
              ساقيتي 

أدورُ وراءَ ماشيتي،
وهي مغماةُ العين،
تمشى واثقة على عزفِ أوتار تروسها،
وأراقبُ القواديسَ تجبُ الماء في قلبها من البئر،
وتضخهُ في المسقي .
.في كرمٍ وحُبٍّ –
مُرتدي الماء ثوب النهار،
عاكس أشعة الشمس كأنه يطل في مرآة صافية –
ويجرى  في القنوات ليروي الزرع،
وشجرة الكافور على حافة مجرى النهر،
تُظلنا ..طاردةً لهيبَ الحَرِّ ،
وعليها يمامةٌ تُنشِد :
“كو..كو..كو..جوزوا.. بنتكوا …للي يصون عرضكوا”
أرضعتني أمِّي لغتها من المهد –
رحمة الله عليها وعلى الجميع –
وتزكيني ساقيتي،
وبيتنا ..بناه أبى – رحمة الله عليه وعلى الجميع –
في الجانب الشرقي من الحقل،
وشجرة النَّارنج  تحت نافذتي ،
يرددُ نسيمُها مع الصدى ابتهال الكروان من ليلةِ الأمس :
“المُلكُ لَك …لَك.. يا صاحِبَ المُلك”
وبجوارها شجرة التين –
زرعتها أمي من العقل-
وها هي تقطف ثمارها،
أتية لأبي ماشية على الجسر ،
وأبو قردان يلتقطُ الدودَ من الأرض دون خوفٍ منها،
فهو يعلم إنها تعلم أنه صديق أبي،
حاملة فوق رأسها عائلة الشاي،
وفي يدها اليمنى قُلَّةٌ يفوحُ منها عطر ماءِ الورد،
واليد اليسرى حَمَيَّة،
وإذا كانت ذنبا؛ فليغفر آلله لهما الذنب،
تفرش الوِدَّ له على حافةِ الأرض،
وتُخرجُ عودَ الثِقاب من صدرِها،
وتشعلُ النارَ في العُشب، صانعة لأبي الفحم
، و جارتُنا – خالتي – تُلقي عليهما العافية،
لا يُضاهي جمالها إلا القمرَ ليلة البدر،
هيفاءُ..حميراءُ..ذات جديلتينِ بلون القش،
يترنحان، ويتدليان مع خطواتها إلى الخصر،
تُمسك بها أمي لتشرب الماء المعطر
بماء الورد والشاي كما تُحب.
وخالتي ذات الرداء بلون الليل ارتدتهُ منذ مات زوجها،
وترك لها صغارا في مقتبل العمر ،
شدت الوثاق على رأسها وعلى ظهر العزم،
حمارها محملٌ بالبرسيم،
يعرف الطريق من الحقل الى البيت،
يمشي وحده في أمان ونشاط،
وصغيرها ابن السادسة عاد مبكرا من المدرسة
جالسا يكتب في كتابه،
بجواره كلبه الوفي يرعيانِ عنزة،
وظبي  على حافة النهري،
والشمس ها هي في قلب السماء
معلنة انتصاف النهار.
يتركنا أبى وكأنه لا يعرفنا،
ويعلو الصفير في الأرجاء،
منادٍ على كل فلاح في أعماق الأرض،
لقد حانَ الآن موعِدُ صلاة الظهر ،
الكل يفر إلى الصلاة جماعة في المسجد،
والنساء تؤدي فرائضها،
وتهب تعد الغداء في سعادةٍ من خيرات الأرض،
والقيلولةُ مُقدسة،
يسكن الجميع البيوت،
وهناك من يجلس تحت طراوة ظل الأشجار فاردا
الجسم، يحكي أساطير الأولين مُداعِبا
نسماته في تغم ،
وتنتشر الحياة مرة ثانية بعد صلاة العصر ،
وتهب أفواج نشاط الرجال إلى الحقل،
وها أنا أعود أعزف على أوتار ساقيتي،
وعمنا جارنا يُلقِي السلام على أبى.
. يمشي وراء ماشيته واضعا على ظهرها الحبل،
ماسِكَا حبلَ صغيرها من تحت الذقن،
يمشي ورائها وكأنها درست طريق مجرى النهر ،
تشرب وترتوي ويرش عليها الماء مربتا عليها بعطف،
والبط والأوز يلعبون في النهر الذى يكسوه ورد النيل
بخضرته وزهوره البنفسجية اللون، يتوارى فيه ديك البردي…
هاربا من أي صياد أو شَرَك، وعمنا الفلاح على الجانب
الآخر يجنى من أرضه الزرع،
والسائلين والمساكين حاملين حقهم يوم حصاده
مودعينه بالدعوات والبركة وطول العمر، والدواب
حاملة الحصاد إلى الدار .
.هناك ذات الطوب اللبني، أمامها (المتر ) مخزن الحب
، يستقبلن النساء الحصاد في سعادة وشكر، يُرَقِصنَ
الحَبَّ في الغرابيل في طرب، والجدة جالسة
بعُودَتِها…كأنها تهشُ الطير عن الحَبِّ بثوبها
الحنون ..الفضفاض.. غامق اللون،
ومن كيسته تُخرجُ القروشَ لِأحفادِها وأولاد الجيران
مُقَبِّلِينَ يديها،
ويسرعون الى دكان خالتنا رحيمة القلب،
يحملونِ بعضهم للوصول الى نافذته – باب البيع –
يشترون الحلوى ويتبادلونها في حُب.
والجدُّ يجلسُ القُرفُصَاء
بجلبابه بلون السماء عند باب (المتر)
، يحتسي سيجارته – صناعة يديه –
في فكرٍ وصمتٍ..
بين شهيق الماضى وزفير اليوم والغد،
يُرشدُ الجميع بلغة عين الحكمة
، والكل يُطيعهُ في أدبٍ، وحنينُ روحه إلى قلوبٍٍ
فارقته أجسادها منذ زمن
، وباقٍ نسيم ذكرها يُعطر الروح،
وشوقٌ لغدِ الأبناء (الأحفاد – أمل الحياة)،
يسألُ الله أن يجمعهم به في جنة الخلد،
وخلفه الدُور – ذات الدور الواحد
– ومن خلفها النخيل يتدلى بجريده،
والرُّطَبُ على السطح
، والسماءُ بثوبها الرمادي
تُلامِسُ الحياة على امتدادِ النظر..

مازلت أكتب لكم
وسأظل بإذن الله أكتب لكم 
لنضع بصمتنا معا على وجه هذه الحياة 
دمتم بخير أحبتي
سقراطة/سياده

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق