الخميس، 15 أغسطس 2019

الزمن في شعر سعيد محتال من خلال ديوان " همسات قلب حائر " إعداد المولودي سعيد Elmouludi Soaid • فاتحة قراءة ديوان همسات قلب حائر: ان عالم الشعر هو عالم الكلمة الحرة النابعة من اعماق وجدان شاعر اكتوى بنار متناقضات افرزتها ظرفية تاريخية عامة وخاصة في نفس الوقت، أهلت الشاعر لان يحمل مسؤولية وضعها في قوالب شعرية تتبادل فيها الدلالات اللغوية وتنساب واضعة القارئ امام مسؤولية البحث عن المعنى متحديا خبث الاستعارة وقدرتها على التخفي وصلافة الرمز وتطاوله على المعنى ملقيا به في احضان الاسطورة والتاريخ ومحتلف انواع المعارف وخداع الجناسات والطباقات والمحسنات اللفظية التي تتيه بنا في دروب اللفظ وعذوبته المدلة للقلوب الوالهة بجمالية التعبير، وفي جحيم الخوض في فك رموز الكلمة ادعوكم جميعا الى المشاركة المتأنية والصبورة في قراءة ديوان همسات قلب حائر، ولنبدأ أولا بالعنوان، وهل هو يحيلنا فعلا الى شعر غنائي؟ .....................• عنوان الديوان: قد تلعب اللغة دور المضلل في استيعاب مضامين نص ما، لأنها تحمل رسالة ملغومة ومبطنة بشحنات وجدانية، تتميز بالقلق والحيرة ،في تتبع متغيرات الحياة وتقلبات العصر ، ويكفينا ان نعرف انها صادرة عن الانسان ، ذلك الكائن الذي احاط نفسه بمجموعة من الميكانيزمات التي تعتبر اساس تكوينه النفسي ،فاللغة ليست مجرد وسيلة تواصل بل هي حصيلة تفاعلات نفسية واجتماعية كفيلة بان تلقي بنا في متاهات الوعي الشقي المبني عن تامل وتحليل ورغبة قوية في تغيير الواقع، ويمكننا ان نتبين هذه الشحنة الوجدانية الكثيفة والغنية بالدلالات الانسانية في عنوان الديوان الشعري للشاعر المتألق سعيد محتال ، فهو عنوان يتكون من ثلات كلمات وكلها غير معرفة، وقد تدفع البعض الى الاعتقاد انه ذو منحى وجداني غنائي فحسب ، لكنه عكس ذلك فهو يتلون بشكل مستمر لدرجة الحيرة ،فالقصيدة الواحدة قد تصطبغ بعدة الوان وتمشي في عدة سياقات، انه يضع فيسفساء عجيبة يجمع فيها ماهو واقعي وماهو فكري اخلاقي ان لم نقل تصوفي وبين ماهو كلاسيكي وما هو غنائي مرة اخرى ، انه يلقيك في متاهة لغوية فريدة تستفيد من كل شيء وتصل بك الى عوالم مختلفة الابعاد .قبل ان اعطي رايي المتواضع اضع نفسي والقارئ في المعادلة التالية، لو كان العنوان كالتالي "همسات القلب الحائر" فسميائيا نفهم الامر التالي، ان ارتباط النكرة بالمعرف يعني حالة وجدانية تتعلق بوضعية محددة وظاهرة هي الحيرة وهي سلوك وجداني قائم على ازمة اختيار اساسها السأْم والخوف من الاختيار الخاطئ المؤدي الى الاحساس بالروتين اي اننا امام وضعية نفسية وجودية على غرار كتابات سارتر وكير ك غارد والبير كامو وهايدجر ، اي ان الوضعية الداخلية للإ نسان هي العنصر المحدد للوعي الشقي والقائم على ازمة الاختيار وعدم القدرة على التماهي مع الوجود الخارجي ، والذي هو في الاساس وجود عدواني قائم على الرتابة ، والتي هي سبب القلق والساْم. أْما المعادلة الثانية فهي كالتالي ٌهمسات قلب حائر" فهي سيميائيا تتكون من دلالات لغوية كلها نكرة وغالبا ما تكون الالفاظ غير المعرفة مرتبطة بالحيطة والتستر في ابداء الراي ، فهي لا تعكس ذاتية مقنعة يغيب فيها المتلقي كما في الوضعية الاولى بل تتكون من طرفي لقاء وتواصل وجداني متفاعل ومنسجم فيما بينه اي ان المعادلة تقوم على مفهوم" السر " والسر لا يعني الهروب من الاخر او من المسؤولية بل هي رد فعل انعكاسي بسبب تهديد ما يدعوني الى الحيطة والحذر، انه سلوك اجتماعي اكثر منه سلوك ذاتي ،وتذكرني هذه الوضعية ببعض الكتابات، فالهمس هنا يعكس علاقة حميمية بين طرفين او اكثر وحينما اهمس له فانا ارسل له رسالة متخفية هروبا من وضعية مذلة ومعادية ، فالوضعية الاولى تعكس ازمة اختيار مسومة بالقلق والتوتر والهروب من الاخر الذي ارى فيه الرتابة والساْم وازمة عدم الانسجام ، اما الوضعية الثانية فهي تعكس ازمة سر وازمة وعي بالاستلاب والاغتراب الناتج عن تناقضات مجتمع طبقي قائم على الاستغلال والتحكم في كل شيء بما في ذلك الطبيعة، فهو همس لا يؤدي الى الجنون والانفصام بل همس انساني يقوم على اساس شخصية سوية تعتمد اسلوب التقية والاحتراز وهذا ما يسمى بالاغتراب الادبي، فالهمس كما اراه هو نافذة عامة عن العالم الشعري الذي خلقه الشاعر حيث استحضر كل مكونات الحياة من اشجار وانهار وغابات وامطار وعائلة ومجتمع ، تتحول عند الشاعر الى موضوع فقد هويته وبريقه وزاغ عن الطريق المرسوم له ، وهو لا يقف عند هذا الحد بل يصل الى حد اتهام الانسانية بالمسؤولية عن هذا الخلل الذي شوه وعطل كل مظاهر الحياة، وما شعره هنا الا همس خافت لتبرير عاطفة غير كافية لإصلاح الخلل همس لا ينطلق من الذات الى الذات ، بل من ذات الشاعر الى الاخر المتلقي الذي يدعوه الى الانصات ليتلقف الرسالة. .............• الزمن في شعر سعيد محتال............... قد لا يختلف الناس حول مفهوم الزمن لانه معطى مباشر ومحايث لفعل الوجود، ولكن مفهوم الزمن عند شاعرنا سعيد محتال له حمولة اخرى ، اذ يعطيه قيمة متعالية ومطلقة ، ترتبط بكل مكونات الوجود ،حيث يصبح ذا بعد ايحائي يلون كينونة الشاعر ويصهره مع مكونات كوسمولوجية لها وجه انساني يحمل كل ابعاد الانسانية سلوكية كانت او انفعالية : في تلك الزاوية من النهار ينتابني صمت الشمس الرهيب يخبرني ان زمن الدفء قد ولى حاولوا ان تتصوروا ثقل اسم الاشارة وحمولتها الدلالية " تلك الزاوية " فعندما يلفت انتباهنا ويحفزنا الى القاء نظرة ، يلقي بنا في متاهة معنوية لا حسية ، فيعين المكان الهندسي المنتظر الزاوية من النهار ، ان الشاعر يحشرنا حشرا في بعد هلامي غير حسي هو النهار انها تجربة القلق ذو الدلالة الوجودية الباردة ويهيم بنا في مجموعة من التساؤلات الوجودية التي تحاصر الذات باسئلة حارقة : اين غاب الورد اين زمن بهاء السماء اين بسمة النجوم اين بريق الرعد انه يضعنا في متاهة الاغتراب ، حيث تفتقد الذات مقومات وجودها الجمالي ،ويضعنا على بوابة تنفتح على قيم انسانية مفتقدة ، يضعها في مساحة زمنية تقبل الحركة والارتداد في نفس الوقت، الارتداد الى الذات المغتربة والمغرقة في البحث عن هوية تاريخية. ويطارد الشاعر الزمن ويظل في بحث مستمر عن معناه : لاح الفجر النجمة البعيدة تدثرت تجوب دروب النهار اننا امام تجربة انسانية تفاعل فيها الرمز والاستعارة لرسم صورة شعرية ذات قيمة فنية كبيرة، فالزمن عند الشاعر ليس هو مجرد امتداد فينا بل هو حافز قلق وتوتر يرسم الحدود الفاصلة بي ما كان وما اصبح ، انه عرض لتجربة تيه واغتراب في زمن الحركة والترقب، يقتات على فضلات مابقي من زمن العشق ، وبالتالي فتجربة الزهد لاترتبط برغبة صوفية تتوحد مع عناصر الطبيعة بل هي عملية استحضار لما كان ولما فقد في زحمة الحركة مع انسداد الافق ، وما كلمة نهاية الشارع الا تاكيدا لضبابية المشهد ونسبية الطموح في ظل غياب عناصر الجمال. وحينما يضعنا الشاعر في صور التقابل والتضاد فهو يحصرنا في عاطفة جياشة قوامها نقيضين الاول هو الاقتيات من فتات الحمام وهو هنا رمز السلام من جهة، والحرية في التنقل من جهة اخرى، اما الزاهد فهو فكرة روحية ترصد لنا الوعي باهمية العفاف من جهة وعدم الرضا عن الواقع والهروب الى العزلة لا التوحد من جهة اخرى: نهاية الشارع بوابة موصدة ... جلس كعادته يترقب بزوغ فجر ... كناسك يقتات من فتات الحمام اننا امام جمالية الصورة بكل ابعادها الايحائية التي تحصرك في زاوية البحث عن الحقيقة، الحقيقة التي ضيعها الانسان نفسه، ككلمة دخان التي اراد بها عكس ما تضمنه الحكمة التي تقول لانار بدون دخان ، فالشاعر هنا يضعنا امام صورة غير مالوفة دخان بدون نار ، ومن خلال الاستبطان وعملية المسح لدلالات الالفاظ نتبين المعادلة التالية، فغياب النار يخص غياب الرغبة وغياب الطموح و الحركة، والدخان هنا يرمز للغموض غير الطبيعي الذي أصبح يميز الاشياء والمزاج العكر الذي يتقلب فيه الانسان، فالشاعر وضعنا امام حقيقة غريبة قلبت فيها الادوار فهو يعرض امامنا صورة يقلب فيها الاشياء فبدل ان يراقب الانسان الزهرة اصبحت الزهرة تراقب الانسان ، وتعاين حزنه وقلقه: دخان كثيف ولانار فيا زهرة تبسمت في جوف النهار هل تلمسين حقا ان حزني دفين تجربة نفسية عميقة ، قوامها البحث عن شيء ما ، وقد يصنف البعض هذه التجربة الشعرية بالنزعة الصوفية، لكن حينما نقوم بعملية تحليل ومتابعة للدلالات اللغوية ، نتبين من خلال عملية المسح للوصول الى المعنى ان الشاعر لا يبحث عن تجربة التوحد والذوبان في الوجود ، بل هناك بحث عن فقدان قيم الجمال والسحر الذي افتقدته الطبيعة: تسللت خفية الى سلة المهملات لعلي اجد حرفا غيره لا يقبل التيه في الممرات ان عملية البحث المضنية لاتؤدي بنا الى التيه والضياع، بل اننا امام بحث منهجي ومتواصل، يعري الحقيقة ويسيطر عليها. ان الخطاب الشعري ليس خطابا مغلقا بل خطاب واع يراعي الحدود القائمة بين الذات والطبيعة في زمن الحرقة للوصول الى الحقيقة: ايتها الصخرة الصماء البئيسة رغم حر السنين مازلت بئيسة ويستمر السؤال وتمتد الدلالات اللغوية لتضعنا في صميم رغبة الشاعر في البحث عن الدفء في زمن التردي: هل لك من ميل ايها المتيم بالليل والنهار بالشمس والقمر .... انا المشتاق الى دمعة امي الى خبز امي الى سخاء امي ...... ما وجدت سوى صدرك الحاني اننا نصل الى حقيقة الزمن ، زمن الارتباط العاطفي بالحياة والتيه في البحث عن المعنى المألوف: كلما حل الظلام ونام النيام قام الصبح يشكو كيف اصبح الليل انشودة تحت شموعه تقام الاعراس. .......................الجزء الثاني ........................ لقد ارتبط مفهوم الزمن عند الشاعر بهم اساسي، وانشغال ابدي يتعلق بهوية الانسان ونسبية تأثيره في الاحداث، والبحث عن الاصل والهوية، والاندماج مع الطبيعة، انه فيض من عاطفة شغل لحظة زمنية صهرت الشاعر ومجتمعه وجوديا مع مكونات الصورة الجمالية للطبيعة ،باحثا عن الجذور والحرية الممتدة في عروق الازهار: انا انسان حر يأبى الضيم والنسيان في زمنك الزاهي هل انت قدري اننا امام انسلاخ عن الزمن ومحاولة الخروج من شرنقته، اذ يؤطر لزمن افتراضي ليس له ومنفصلا عنه ، وزمن ذاتي هو زمن الكلمة اللاهثة وراء البحث عن الجدور والهوية: ايتها الصخرة الصماء البئيسة رغم حر السنين مازلت بئيسة تتشبتين بي وانا كحالك التعيسة بلا جدور ....... يا نبتتي شموخك مصدره عطفي لولاي لتحجرت وما انبت منحتك عمرا فتمردت فعمق الصورة يأتي مرافقا لأسلوب النداء والحوار اللغوي، الذي يخاطب به الشاعر الصخرة الصماء ، اننا امام استعمال رفيع للمجاز رافعا التحدي الانساني الى اعلى درجته بحيث يصبح هذا الاخير هو واهب الصورة وواهب الحياة لكل شيء، فبعد ان يعمم البؤس على الكون / الصخرة الصماء البئيسة/ ينتقل الى السبب الكامن وراء هذا البؤس وهو الانسان نفسه وهذا يذكرني بالقولة الشهيرة اذا كان هناك بؤس على وجه الارض فالإنسان هو سبب هذا البؤس فهو الذي يصنع الاقوياء الذين يصمون اذانهم ولا يستمعون لمأساة الاخر، ولهذا سميت الزمن الشعري في الديوان بالزمن الافتراضي لأنه يضع اطارا هلاميا لا يمكن لمسه ولكن يمكن استشعاره من بين السطور ومن بين الشحنات الوجدانية لكلمات القصيدة: تراه ما بال الموت يسكنني يسالني عن صمتي الدفين عن زهرة ذبلت قبل الرحيل اننا امام اعمق درجة للتعبير الشعري والتي لايمكن استيعابها الا من طرف متمرس في التحليل، فمن خلال الطباق يضعنا الشاعر امام مشكلة موت الانسان التي تكلم عنها الفلاسفة ،الا ان الشاعر يصوغها في قالب شعري فريد فالموت يسأل الميت عن سبب صمته وعن سبب سكونه وسلبيته ، فهو يلخص لنا ازمته كشاعر ، ازمة الحيرة التي يعلن فيها رفض موت الانسان والذي كان سببا في موت كل شيء : ضوء القمر يأبي العبور الليل يراود النجوم ........................الجزء الثالث........................... لا يتعامل الشاعر مع مفهوم الزمن كخط متصل ، ينطوي على حركية نحو الفناء ، بل يتعامل معه كقضية ارهقته والقت به في ازمة العذاب والمعاناة ،بل كزمن خاضع لقانون التوليد والصياغة ،فهو مسكون بالمخاطرة ، انه اللعنة التي القت بالذات في اتون الحيرة والسؤال المقلق ، الذي قد يشعرنا بالعبث والاحساس بالسلبية في بعض الاحيان : منذ الازل الفاني وانا اعاني من وجع الالم الداني لست ادري ،أأنا الجاني؟؟ ام ذا قدري؟ نعتوني بن يقظان ........ بيدي كانت نهايتي فالقلق أو الالم أو المعناة ما هي الا مفاهيم يريد بها الشاعر معنى واحدا هو التجربة المرة التي يعيشها الانسان ، سبب هذا القلق هو الازل ،وهو عنده يعبر عن امتداد الزمن فينا ،فالتاريخ على هذا الاساس هو تاريخ الوجع والمعاناة، و هو في نفس الوقت تاريخ اللاأدرية والجهل والسكون ، وبهذا يؤسس الشاعر لفلسفة وجودية قائمة على القلق وحرقة السؤال ، الا ان استحضار الرمزية يلغي العبثية وينقلنا الى مستوى التفكير النسقي الباحث عن الحقيقة ، اننا امام قصيدة فلسفية قوامها التامل في الكون والطبيعة وفي الذات والاخلاق ،فرمزية حي بن يقظان تؤثث لفعل وجود قائم على التامل الواعي ،القادر على ان يخرج بنظرة متكاملة لفعل الوجود الايجابي ،وهكذا يتخطى الشاعر العبثية والاغراق في العدمية ، فحي بن يقظان رغم وحدته وعيشه في الطبيعة منفردا ورغم اغترابه تمكن من معرفة ذاته ومعرفة الوجود ومعرفة مقومات الحضارة ،والوصول الى الحقيقة وبالتالي الخروج بنتيجة واحدة مؤداهها ان موت الانسان ونهايته يتوقف عليه ،فالإنسان عدو نفسه وهو السبب في تدمير مقومات وجوده بيدي كانت نهايتي فاذا كان البنيويون قد اعلنوا موت الانسان وانتهى الكلام ،فالشاعر يعلن بصراحة ،ان نهاية الانسان مرتهنة بسلوكه واختياراته. هكذا يكون الشاعر بمثابة " نبي " يحذر من مخاطر الانسان على نفسه وعلى غيره، وبذلك يقترب من نبي جبران ونيتشه ، وقد اعتبر هذا الاخير في قولته الشهيرة ان الانسان اعرق من القرد في قرديته، وبذلك يبني الشاعر نسقه الفلسفي الخاص به فوجود الانسان وجود متناقض ومتضارب اساسه الالم ، وبالتالي كانت معرفته بالذات معرفة كلها قلق ومعاناة ،لان سياسته الاخلاقية مبنية على الاستغلال الغير الطبيعي لمكونات وجوده ، مما جعل اخلاقه مرتجلة وقلقة كلها الم واوجاع. ففي قصيدة لا جدوى من الكلام ،يبين رسالته كشاعر يحمل مسؤولية جسيمة، انها مسؤولية الكلمة لما لها من قدسية ولما لها من دلالة وجودية قادرة على تعرية الغموض واجلاء الحقيقة. انتهى الكلام جئت الى هذا الزمن في هدوء وسكون اول ما علموني علموني الكلام ما كنت ادري حينها ان للكلمات معنى كاستقم ...... لو علموني حينها الاصغاء او الصمت او قيمة الزمان وان الكلام قواف واوزان هنا تتضح الرسالة التي يحملها، فالكلام ميزة انسانية ، و فعل وجود يلغي السلبية ويبني انسانية الانسان الذي لا يمتثل لقوانين اخلاقية صاغها المجتمع فقط، بل يبحث عن انسان قادر على التفكير والتامل في ماهية الوجود بناء على قول الشاعر" لو علموني حينها الاصغاء" ولا يحدد الشاعر من هو هذا "الهم" بل يضعه في مستوى الكونية اللاشعورية بقوله "علموني" فهو لم يحدد من علمه بل حدد ماذا علموه ، علموه " استقم" "امتثل".. انه امر بوجود مشروط قائم على الالزامية ولم يعلموه التفكير والتامل " لو علموني حينها الاصغاء" اننا امام رمزية قوامها احساس الشاعر باهمية الاصغاء لكل شيء للطبيعة للكون للذات للآخر انها اهمية احساس الموجود لماهية وجوده وللرسالة الانسانية التي يحملها وهذا ما يؤ كد الطرح الذي قلته في البداية ان الشاعر بعيد كل البعد عن النزعة الصوفية ، لانه يحمل الدلالات اللغوية بعدا وجوديا مشحونا بالارادة في التغيير والرفض للاعوجاج الموجود في المجتمع. فهو كنبي جبران يركب السفينة، وهي رمز الانسياب والابحار في اتجاه المعرفة او بمعنى اخر البحث عن معنى للحياة . راكبا سفينة الصمت والنسيان أتحسس امواج الاصوات ...... ابحث عن ايماءات العيون .... انني ولدت اخرس اللسان ....... امسك لسانك الهمام ماعاد مباح الكلام ما دمت لا تجيد النباح ..... لو امهلني شهريار لأضفت للصباح نبراسا ينير ليلة الختام. اننا امام سحر الكلمة ، فالكلام له لذته القادرة على التأثير السحري فينا ،انها تأسرنا وتطيح بعناصر المقاومة فينا وبالتالي تبني الانسان الحر والمتحكم في اسباب وجوده ،بل اكثر من ذلك فهي قادرة على اعادة صياغة كينونته، وقد احس النقاد بأهمية اللغة وقدرتها على خلق الانسان مستشهدين بالدين لتوصيل الفكرة، فالدين يقول في البدء كانت الكلمة ، وبمعنى اخر ففي الاول كان الكون مجرد عماء وظلام وفراغ ، والله ليخلق الكون لم يستعمل الا كلمة واحدة اذ قال "كن " فكان الكون وعم النور الحياة. وبالكلمة استطاعت شهرزاد ان تأسر شهريار وتسجنه بين الكلمات وتحرر المرأة ، فقد استطاعت هذه الاخيرة في زمن الحكي ان تسلب شهريار زمنه، وان تخلق زمن اخر هو زمن الكلمة ، فهي بذلك تحيك قوانين اللعبة وتأسر الملك وترسم معالم زمن اخر على انقاض الاول الذي تحكم فيه شهريار، انها قدرة اللغة اللامتناهية في صياغة المعنى وتوليد الحقيقة بكامل تفرعاتها، فقد استعار الشاعر هذه الصور والرموز ليوصل فكرته القائمة على الايمان باهمية الدلالات اللغوية او بمعنى اخر ان المعنى الحقيقي للحياة يكمن بين ايماءات اللغة، فباستعمال الرمز استطاع الشاعر ان يبين اهمية الكلمة وقدرتها على تحرير الانسان والحفاظ على قيمه الضامنة لفعل وجوده ،وعدم الارتهان للاخر القابع وراء عبوديته والضامن لسلبيته والقاتل لحقيقته كبشري ، فمن خلال البحث بين الايماءات والكلمات تولد الحقيقة وتتكسر ارادة التركيع والقتل للإنسان كانسان قادر على تحقيق هويته البشرية، فالشاعر يؤكد لنا انهم يريدوننا ان نتعلم النباح لا الكلام وهنا يضع الحد الفاصل بين البشري والحيواني، بين ان نكون او لا نكون. ان فعل الوجود ينطلق منا وينتهي الينا ، ونحن صناع قدرنا. ويمكن الرجوع لتأكيد ما قلته الى قصيدة "محاولة تجاوز الحدود" فهي مثال التحدي للبحث عن الخلاص ،مع التعبير عن اهمية الكلمة الشعرية في صياغة هذا الخلاص مع التركيز على ترديد كلمة "ربما " لاستحضار اختيارات الانسان الممكنة لهذا الخلاص. رُبَّما أَتَجاوز الْبحْر عوْما رُبّما أَصعدُ بالنّائبات إِلى السّما رُبّما تَهجُرني الذِّكرياتُ قُدما رُبّما أَنْسى سنينا تَجهُّما رُبّما و رُبّما.. لكن سَأَظلّ مُحلّقا رَيْثما يَنْكشفُ الغيْمُ تَألّما وَتَلْحق بي أَحْلامي تسْرِي بي لَيْلا كي أصَافِح الْبَاسقاتِ وَالْأَنْجما حِينَها أَتَجمّلُ عِطْرا لا دَما وَأَمْنحُ شعْري بَلْسما لتُضيء أحرُفي لَيْلا مُظْلما.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق