الاثنين، 12 أغسطس 2019

مغامرتي الأخيرة – قصة قصيرة أنهضُ قبل الشروق؛ استعدادًا للمغامرة.. أتأنق متنكرًا على الطراز الغربي إلى حد ما: أرتدي الجينز الأزرق والقميص السماوي.. ألتقط الحذاء البني ذات الرقبة الضيِّقة، أضع القبعة البيضاء فوق رأسي، أنزع الكاميرا من الشاحن؛ فأعلقها بعنقي ثم أخرج مع شروق الشمس.. النهار في قريتنا هادئٌ كما في الليل تقريبًا.. لا ضجيج سوى أصوات، وحركات الكائنات الأخرى، التي ترتع، وتمرح، في غيبة البشر. الحقول جرداءً بعد أن هجرها أصحابها.. المصارف المائية المحيطة بها صافية: تكاد ترى ملامحك وهى تتلألأ فوق صفحاتها الناعمة.. تبدو القرية عارية تحت قرص الشمس.. تعودت القفز خلال تلك التُّرع والخُلجان والهبوط فوق الجسور الضيقة المبللة بالندى.. يروق لي دائمًا مراقبة حركة قريتنا قبل أن تلفحها أشعة الشمس الصيفية.. أشاهد سكانها (رجال، نساء، أطفال) وهم يقفون في فوضى عارمة؛ تقمعهم لسعات السياط الثائرة هنا وهناك.. لا يكاد ينجوا أحد من السَّب أو اللعن إن نجح في الاحتماء من الضرب.. ومع هذا، فهم ينتظرون دائمًا -في شغف مُلفت- مجيء العربات المكشوفة المتهالكة التي تأتي مسرعة تشحنهم في صناديقها الحديدية؛ فتنقلهم إلى العمل بمزارعنا النائية ثم تعود بهم مع الغروب.. ومع تلاشِ ذلك المشهد؛ أتجول في أنحاء القرية، وقد صارت خالية من أنفاس الناس.. أفتش بين أزقتها، أتحسس دروبها، أتربص بسكانها الافتراضيين.. أتحين الفرصة لاقتناص ما تيسر لي من اللقطات التي ينجح أبطالها في إثارة موهبتي.. كثيرًا ما تأخذني تفاصيل العلاقات المثيرة بينهم: فقد أتحمس لمنظر قطة وهي تقف حائرة تبحث عن مكان آمن لمولودها الذي يصرخ بين فكّيها بعد طردها من أحد البيوت.. وقد يدهشني طائر أنهكه التعب بعد أن طاف بقاع الأرض؛ ليعود ببضع حبات يضعها بأفواه صغاره الجائعين.. فأتمركز جيدًا وأقتنص تلك الصور النادرة.. ولكن تلك المرة كانت المغامرة الأكثر إثارة على الإطلاق؛ إنها لكلبة: نشأت، وتربت في بيتنا؛ وكان قد طردها أبي الليلة السابقة؛ لتقدمها في العمر، وتراجع أدائها في حماية منزلنا مثل بقية كلاب الحراسة. رأيتها وسط فرقة من كلابنا الشرسة؛ التي يبدو هربت من قسوة المعاملة، وشدة الجوع.. كانوا يتربصون بها, يريدون نهشها؛ وهي تحاول الفكاك, لكن دون جدوى.. كان يمكنني إنقاذها، لو كنت ألقمتهم حجرًا؛ ولكني خشيتُ خُسران تلك الفرصة.. مكثتُ أراقب من خلف نخلة مكشوفة، تلك المعركة الغير متكافئة.. صوَّرْت خلفية المشهد، وأبطالهُ؛ في انتظار لحظة انقضاض الوحوش على الفريسة.. وهل تتجاوز تلك المحنة، أم تصير مغنمًا يتلذذ به الأشرار؟!.. ظلّتْ تصرخ متألمة.. تقاوم –ببسالة- محاولات نزع جلدها، الذي تهتك؛ حتى جاءها الغوث.. أتى صغارها مسرعين من كل اتجاه.. ازداد المشهد إثارة.. رجعتُ قليلًا إلى الخلف؛ لكي تبدوا الصورة أكثر بانوراميه.. كنت أشعر بلذة مدهشة؛ كلما شاهدتُ تلك الصورة الفريدة بمخيلتي؛ فأجتهد أكثر في ضبط العدسة، لتصبح أكثر دقة في رصدهم، وهم يقفزون فوق ظهور البغاة؛ الذين فروا مدبرين.. وبينما كان صغارها ينظفون جسدها المصاب، ويجففونه بألسنتهم؛ مشيت نحوهم.. أردتُ أن ألتقط بعض الصور التذكارية معهم؛ فأبى الصغار وقاموا بمطاردتي ولكني تمكنت من الفرار إلى طريق أخر.. رجعتُ منتشيًا بما أنجزت.. وفي منتصف الطريق، اعترضني ثلة من اللصوص، كانوا يريدون انتزاع الكاميرا من رقبتي؛ التي أصيبت من شدة مقاومتي لهم.. استمتُّ عليها وظللتُ أصرخ متألمًا، مرتعدًا حتى جاءني الغوث.. إنها الكلبة والصغار.. يبدوا أنهم كانوا يراقبونني دون أن أشعر.. فرَّ اللصوص مذعورين عندما رأوا الأم وصغارها؛ مسرعين نحوهم، يزأرون كالأسود الجائعة.. رافقتهم إلى بيتنا بعد أن تخلصتُ مما كنت أختزنه لهم من صور بذاكرة الكاميرا.. القاص| محمود روبي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق