الأحد، 18 أكتوبر 2020

قراءة أدبية نقدية الناقدة الشاعرة أ.هدى مصلح النواجحة/ لقصيدة الشاعر د.جاسم الطائي

قراءة أدبية نقديةٌ في قصيدة رفدُ القوافي
للشاعر د, جاسم الطائي
استاذة النقد ام فضل النواجحة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على إمام المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تستهويني قراءة القصائد المغلفة والتي تتستر وراء أحجبة ٍلا تبدي من الوضوح إلا ما يظهره الشاعر من دلالات لفظية توحي بما يريد الشاعر إيصاله للمتلقي. وأنا أمام قصيدة رومانسية الوجد والحالة. قرأتها عدة مرات لأصل إلى مكنونها المتواتر, فما كان لي إلا أن أبدأ بعتبة الخطاب الشعري, وهو العنوان (رفد القوافي) والرفد التي عرفت بالإضافة ,أفصح عنها الشاعر بالدخول في قوافي الشعر كي تعطيه أحسن عطاءاتها وأكرم وأجمل ما فيها. وقد بدأ الشاعر بصورة شعرية فقد شبه القوافي بالناس الكرماء المعطاءين, والقوافي مجازٌ مطلق للشعر بكل قوافيه وأشكالها .
والقصيدة ليست بالهيّنة في تناولها ؛ لأن الشاعر يلقي بدلالاته الشعرية وإشارته التي عجت بالصور وعلينا ملاحقتها وفضها. فقد بدأ القصيدة بالمضارعة أي الحالة الآنية الحاضرة والمستقبلية بقوله( أتيهُ)فأين توهان الشاعر ؟ فالتيه الذي هو حالة دائمة للشاعر, صورة جمالية رغم قتامتها التي ألبسها ثوب الاستعارة المكنية في (ثوب التغرب) وفي ذات الوقت دعمها بوصف حاله وبما أصابه من وهن , وإن كان الشاعر تائهاً هناً, إلا أنه غير متوقف في دلالة (وأطوي الخطا ) ورغم ذلك يأتي بحالة مضادة وهو خذلان السن أي كبره ,وهذه صورة جميلة للشاعر فقد شبه كبر السن بالشخص الخذول , فالتوافق في الدلالة بين الشطر الأول من البيت الأول مع دلالة الشطر الثاني في نفس البيت في( على الدرب , وأطوي الخطا) وفي (في وهن, ويخذلني سني), غير أن الشاعر يفصح عما به من ألم, فالأمر الأول هو بُعدُ الحبيب والأمر الثاني هو ذكره لعمره الذي يعطيه صورة بديعة؛ إذ جعل للحزن يد ومزقت عمره. ما أجمل تشخيصه , رغم كآبة الصورة في قوله (بذكري لعمر ٍ مزقته يد الزمن ) كما جاء في البيت الثاني . والشاعر مستمر في تسليط الضوء على حالته النفسية ,فهو يسامر الطيوف وهنا حالة شمولية (من كل الطيوف)بدلاً من البشر كناية عن وحدة الشاعر, ويعلل لما يفعل بقوله(عساي أرى فيها يقيناً من الظن )فلننظر إلى ما قاله الشاعر :
أسامر من كل الطيوف تعلة
عساي أرى فيها يقيناً من الظنِّ
وفي البيت الرابع يشبه ظنه بالشخص الخادع ؛ فهو لم يجد به غير بعض التأسي وحتى لم يغنه هذا التأسي ,والاستثناء جاء معززاً لمطلوب الشاعر في قوله (غير بعض من تأسي ) ويستدرك نفسه بعدم جدوى هذا القليل بقوله في أسلوب النفي (ولم يغن)
وفي البيت الخامس التفات لدار الأحبة في خطابه الشعري قائلاً لها ومشيراً إلى نفسه أنا منك يا دار الأحبة ليدلل على علاقته الحميمة بها ولكن هذه العلاقة يشبهها بالجمرة المتقدة , ويعيد التساؤل هل الظعن قريب منه ,ويشبه الدار بالشخص القادر على الإجابة وهذا ما قاله الشاعر:
أنا منكِ يا دارَ الأحبةِ جمرةٌ
تلظّى فهل للرحلِ مقربةٌ منّي
وفي البيت السادس يترجى الشاعر ليلحقه بما قبله ويقول الشاعر تلك الدار للبعيد لاشمئزازه من خلوها من الأحباب , فهي التي تقادمت من بُعد الأحبة عنها وأصبحت لا تسر ؛ إذا البعد وافق على رحيل الأحباب ,وهنا انحرافٌ شعريٌّ جميل وتقديمٌ وتأخير فقد بدأ بجواب الشرط قبل فعله انظر قول الشاعر :
وأرجو وتلك الدارُ أبلت على الجوى
رسولاً إذا ما البينُ أثنى على الظعنِ
وفي البيت السابع يصف فؤاده بالطيب (الغر) الأبيض ويتساءل لمن يشكو هذا الفؤاد ما به من عشق إذا يهجر صاحبه ليعيش ويحلو مع الظن , وهنا طباق جميل في (يهجرني ,ويحلو ) وجناس في( ظناً ,الظن )
وفي البيت الثامن تعاقب حدثين في (ويأسرني , ويقتلني ) وطباق في (قرباً , وبعداً) لتوكيد علاقته بفؤاده إثر غياب الحبيب وحرثه الذي شبهه بالمستجير القائل ألا دعني إن لم تنسجم معي وتبقى على ظنك . لننظر كيف يشظي الشاعر بينه وبين فؤاده ليخاطبه ويُجسده .
ويأسرُني قرباً ويقتُلني بُعداً
وما زال حَرثِي يستجيرُ ألا دعني
والشاعر في البيت التاسع يضفي على ذاته صفة العزة والكرامة صاحب مناقب خيرة لكن الدهر الذي شبهه الشاعر بالبحر الذي يفيض بالضغائن فجاءت الاستعارة التصريحية مع الاستدراك ما أضفى إلى الشطر جزالة في ربطه بشطره الأول
عزيزٌ ولي في كل منقبةٍ وعدٌ
ولكن هذا الدهرِ فيضٌ من الضغنِ
ومن هنا يتضح نوع فيض الضغن فيقول في البيت العاشر :
لكم جار في حكمٍ ولم يرعَ واجداً
ولم يرعَ ما قد سحَّ طوعاً من الجَفنِ
لقد جار الدهرُ في الحكم عليه ولم يرعه كإنسان ٍ موجوع ولم يراع ٍ ما قد سح من الجفن (كناية عن كثرة البكاء ). لكنني أجد مجيء كلمة طوعاً أثقلت على معنى البيت فالإنسان يبكي قهراً وليست بإرادته إلا إذا الشاعر يعني أن العين شاركته وطُوعت لعملها وهو البكاء فيقول :
أناجي ضفافَ البوحِ رفقاً فإنني
لجمتُ جراحي فاستفاقت على لحني
والشاعر يعود ليربط قصيدته بعنوانها قائلاً أنه ذو همة في البوح إذا ما تواردت الأفكار وكبت الكلمات بالحروف فهو يشبهها بالحبال وكأنني أمام تضمين( أرخى سدوله وأرخى الليل تباشير الصباح ) وأرخى بمعنى ترك ليمتد ويشبه انهمار الشعر كأنه لجة ويعيرها للبحر الطويل في الشعر , ومضى ما نظمه من أبيات القصيدة وقد شبهها بالسفن المتتالية وكلها له وهنا إشادة من الشاعر وافتخاره بقدرته على حسن النظم وجميل القوافي .
طويلٌ إذا ما الحرفُ أرخى حِبالهُ
وفي لجَّة البحرِ الطويلِ مضت سُفْني
ويؤكد ما سقناه في البيت ما قبل الخير بما ورد في البيت الأخير إذ جعل في السطور الباقيات وأين هي ؟ لم يتبق إلا بيـتٌ واحد وهو الأخير من القصيدة , فيقول له مواسم أي مناسبات محفولٌ بها وأنه متمكن من صيغ القوافي إذ تأتيه على عادة الشعراء القدامى بمساعدة ٍمن الجن (وادي عبقر)؛ أي كناية عن مقدرته الفائقة على نظم الشعر وتمكنه منه
ولي في السطورِ الباقياتِ مواسمٌ
ولي في قوافي الشعرِ رَفدٌ من الجنِّ

وحقاً فالقصيدة نظمها الشاعر على البحر الطويل فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ........... .
موسيقي أصيلة قوية على نهج البحور القديمة والقافية النونية المكسورة مناسبة لموضوع الشاعر وتأسيه .
القصيدة من السهل ٌ الممتنع قوية تدلل على قوة قائلها , وتمكنه من الخيال الشعري واللغة الشعرية التي أفحمها بالصور والبديع ؛ لذا ركزت في القراءة على الصور وعلاقتها بالقصيدة , وتوارد الأفكار ووحدة الموضوع .والقصيدة مازالت بكراً للولوج نقداً فيها .

أشكر الشاعر وأتمنى أن يتحفنا بالمزيد .
مع خالص تحياتي
أ‌. هدى مصلح النواجحة
أم فضل
18/10/2020

( رفدُ القوافي )
أتيهُ على درب التغرب في وهنِ
وأطوى الخطى طياً فيخذلُني سنِّي
أحدِّث عن بعدِ الحبيبِ وأكتوي
بذكرى لِعُمرٍ مزَّقته يدُ الحُزنِ
أسامرُ من كل الطيوفِ تعلةً
عسايَ أرى فيها يقيناً من الظنِّ
ويخدعُني ظنِّي وما كنتُ واجداً
به غيرَ بعضٍ من تأسٍ ولم يغنِ
أنا منكِ يا دارَ الأحبةِ جمرةٌ
تلظّى فهل للرحلِ مقربةٌ منّي
وأرجو وتلك الدارُ أبلت على الجوى
رسولاً إذا ما البينُ أثنى على الظعنِ
ومن للفؤاد الغرِّ يشكو صبابةً
فيهجرُني ضناً ويحلو مع الضنِّ
ويأسرُني قرباً ويقتُلني بُعداً
وما زال حَرثِي يستجيرُ ألا دعني
عزيزٌ ولي في كل منقبةٍ وعدٌ
ولكن هذا الدهرِ فيضٌ من الضغنِ
لكم جار في حكمٍ ولم يرعَ واجداً
ولم يرعَ ما قد سحَّ طوعاً من الجَفنِ
أناجي ضفافَ البوحِ رفقاً فإنني
لجمتُ جراحي فاستفاقت على لحني
طويلٌ إذا ما الحرفُ أرخى حِبالهُ
وفي لجَّة البحرِ الطويلِ مضت سُفْني
ولي في السطورِ الباقياتِ مواسمٌ
ولي في قوافي الشعرِ رَفدٌ من الجنِّ
--------
د٠جاسم الطائي - العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق