الجمعة، 14 سبتمبر 2018

الرواية: سليم الفصل:7 بعدما تماثلت لطيفة للشفاء صارت للمعلم حظوة أكبر لدى الأسرة .ألم يكن هو المخلص من الأفعى والمعالج من سمها؟ كم مرة تباهت فاظمة بهذا الإنجاز أمام جاراتها .أما إبنتها فكلما ارادت مناداة أحد أخويها تناديه: سليم .وإن سمعت طرقا على الباب عدلت منظرها بالتحديق في مرآة معلقة بالمطبخ،قبل أن تسرع لفتح الباب.هو أيضا في الجهة الاخرى يرفرف قلبه فرحا داعيا الله أن تكون هي من يفتح.مع المدة صار يميز خطواتها عن خطوات الآخرين .وكلما إقتربت كلما إنتابه شعور مفعم بالسعادة والفرح.أما لما ينفرج الباب فضوء القمر الخاطف للأبصار يلفه ويصعد به إلى أعلا. وحين يتصافحان فإن اليدين يذوبان ويبدأ الإنصهار في التمدد والإنتشار في جسميهما حتى يصيرا كيانا واحدا. لكنه يبدأ في لوم نفسه لما يفترقان :« يجب أن أبحث عن سكن منفصل ،قبل أن أغضب ربنا .»لما أخبر لحرش فإنه قلق منه كثيرا وأقسم عليه أن لن يبرح مكانه :« أنت ابننا وستبقى معنا » وهكذا صار يتحاشى اللقاءات المنفردة .من هنا نبع تفضيله الإختلاء بنفسه،كلما سنحت له الفرصة، في مكان ظليل قرب تلك الخربة التي ادعى للحرش انها تعود لعائلته.ويغرق في تأملاته الغامضة بحيث يصير مهندسا معماريا :« هنا غرفة النوم وهناك قاعة إستقبال الضيوف و هنا. ...ثم لا يفتأ يمسح ما خطه ليبدأ من جديد فكم مرة بنى هذه البقعة الأرضية وكم مرة هدمها دون أن يصل إلى التصميم المثالي الذي يمكن أن يرضيه..غير أنه أحيانا أخرى يخرج الأفعى التي تعيش في هذه الخربة ويبدأ في ملاعبتها ..وما اثار إستغراب مضيفه والمارة هو انهما يلاطفان بعضهما البعض.في الوقت الذي يخشاها الآخرون. في أحد المساءات انزوى في ركن بالمقهى يهيئ بعض دروس الغد .جلب القهوجي فنجان قهوة و كوب ماء وضعهما فوق مائدة أمامه ،ثم على غير عادته جلس أمامه وسؤال محيّرعلى أهبة الانفلات من عينيه قبل شفتيه : " أتساءل كيف يمكن لمعلّم ترعرع و شبَّ في المدينة أن يلاعب الأفاعي دون خوف أو هلع؟ رشف الشاب رشفة و إبتسم لسؤال محدثه ليجيبه بصوت كله إعتزاز وفخر بالذات: "ألم تسمع المثل القائل :" إعمل النية و نعس مع الحية"؟أي الأفعى إذا لم تؤذها لم تؤذك ،إنها بخلاف الإنسان الذي يكره بسبب أو بدون سبب كما أنه يتلذّذ في إيذاء أخيه ولهذا نرى عشرات الأفاعي مكدسة و ملتوية في صندوق دون أن تجرح بعضها البعض.قارن يا أخي بيننا و بينها وبين الحيوانات الأخرى و سترى أينا أشدّ فتكا أنحن أم الأفاعي؟. كبرت وسط الأفاعي.¡" -"كيف؟ "قالها مندهشا ،ثم واصل :" هذا غير ممكن،غير ممكن.!“ -"إنّه ممكن ، فأبي مروض الأفاعي معروف بالمدينة و يدعى (سي قدور)يمكنك التعرف عليه في بطائق السياحة.كم مرّة عملت معه الحلقة و...."قاطعه : " إسمح لي ،هناك زبون يناديني." .عاد الى كتبه يقلّب فيها عن ضالّته بينما إنشغل الآخر بزبائنه. في المساء إنشغلت العائلة يحكاية الولدين ، يسخران من طفل صار أعرج سبب ذمالة أصابت كاحل قدمه اليسرى ،وهو الآن يتكئ على عصا ،لكن المعلم سليما أوضح لهما أنه يجب عدم السخرية ممن هو أكبر او اصغر منا سنا، ولا من به عاهة ،فهي ابتلاء رباني وقد نبتلى بها نحن ايضا ..غضب لحرش من إبنيه أشد الغضب وتوعدهما بعقوبة أشد؛ لم يعرف أحد السبب الكامن وراء كل هذا التهديد والوعيد . والحقيقة أنهما ذكراه بمعاناته لما أصيب أبوه( أحماد) في عينه اليسرى وفقدها .لا احد أشفق عليه .الكل يناديه الأعور أو أبوكاض . وكان الأطفال يسخرون منه هو لحرش. والقارئ الكريم يذكر باقي القصة. كانت الغرفة تضج بالأصوات، فقد يصدف أن يتحدثوا جميعا دفعة واحدة أو يصمتوا دفعة واحدة..الوحيدة التي تتابعهم بعينيها ولا تسمع أي شيء إلا حوارا بينها وبين نفسها لا يتجاوز جدران جمجمتها هي لطيفة : « إنها معجبة به أشد الإعجاب،لقوة شخصيته ولشجاعته وشهامته وماذا تريدين آخر يا ٱبنة لحرش؟» «وما يدريك إن أحب الإقامة هنا في هذه القرية؟ الفتيات بعد زواجهن، يسافرن إلى المدن أو إلى الخارج وانت يالطيفة ،المنحوسة ،ستبقين هنا في القرية ألأكثر نحسا.» كان آخر من قام من على الصوان هوالصغير،الذي يمضغ ببطء. وبإشارة من يد أمها قامت تجمع أطباق الأكل،بعده مباشرة تبادلوا تحية قبل النوم:"" تصبح على خير .» لن أكرر ما قلته سابقا من أن الحبيبين وإن كان يفصلهما جدار سميك ،فقد باتت روحاهما متعانقين من على بعد. في اليوم الموالي قبيل العصر، توقفت حافلة للركاب ، قادمة من المدينة الحمراء ،أمام بوابة المدرسة ً. هبطت منها امرأة في مقتبل العمر.إنتابتها مشاعر غامضة تتضارب مابين الفرحة والخوف.تذكرت ذلك اليوم المشؤوم ،كانت حينها في الرابعة عشرة من عمرها .قد لا يتذكرها أحد أما هي فنعم، كل شيء مما عاشته وشم( بضم الواو) بالقلب والذاكرة . هنا كانت تعيش واسرتها بهناء وسعادة .طفلة بريئة كانت تصطاد الفراشات وتقطف الزهور.ندت عنها ابتسامة:" كنا معا فراشتين تجري وراء الفراشات ،" ثم ” ترى هل تزوج ؟ كم من ولد عنده الآن؟ أسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها ،لكن بواب المدرسة،صار يتطلع إليها متفحصا، لما شاهدها توقفت أمامه: لاشك انها في عقدها الثالث ترتدي جلبابا أزرق و تضع نقابا لكنه لا يخفي ما تتمتع به من جمال،فعيناها جذّابتان كما أنّ أنفها الصغير يتوسَّط وجها دائرياَّ ينكشف لونه من وراء نقاب أسود شفاف . إستفسرها عمَّن تبحث فأجابته بلكنة لم يتعوّدها:"أريد المعلّم (سليم)."-لم يفهم غير إسم (سليم) أمّا الباقي فكأنّه لم يفهمه. -"(سليم) موجود من أنت سيدتي؟" -'أمّه".في الوقت الذي بدأ يتفحصها من جديد نهرته :"أسرع أم أنّك تريد أن أعطيك صورتي؟" .لم يكن ينتظر منها مثل هذا السلوك ،خاصة و أنها ذات أناقة غير معهودة في المنطقة .فولّى مسرعا نحو القاعة حيث المعلم (سليم). « آه. تذكرت هنا كانت حفرة ،في فصل الشتاء تتحول إلى بركة تسبح فيها الضفادع . كم لعبت وانا طفلة في هذا المكان.رات نفسها طفلة تتدافع مع احد الاولاد في براءة تامة..تدحرجت بلورات فوق الخد الأسيل مبللة. النقاب..اسرعت في إخفاء اثرها لما لوح لها المعلم وهو على عتبة الفصل. هو ايضا كان له احساس بان هذا اليوم استثنائي.خاصة لما قابل لطيفة في الصباح وتبادلا تحية الصباح ملفوفة في بسمة مشرقة أشعلت شموعا بين الضلوع. فابتسامتها لا تضاهى ولا يمكنه أن ينساها.كما فهم الأمر بأنهما سيتقابلان هناك قرب النهر ،حيث ألفا الالتقاء منذ ان شفيت من لدغة الثعبان..كان موقفه واضحا : « لايمكننا ان نلتقي.ماذا سيقول الناس عنك؟ وعني أيضا؟» ولكنها طمأنته بأنها لن تأتي وحدها بل سيرافقها أحد أخويها . هذه اللقاءات المتكررة مرتين في الاسبوع اعطته إمكانية اجراء مقارنة بينها وبين سارة.و إستخلص أن البون شاسع بينهما.«فشتان بين من تزن كلامها ،بل إن كلامها أحلى من العسل وأخرى تطلق الكلام على عواهنه .كلما نبهها كلما أصرت على تكرار نفس الكلام النابي.. العقدة هي أني وعدتها بالزواج ،ولطيفة لها نفس الطموح ولكني لم أعدها بشيء. » واستدرك :« ومواعيدنا المتكررة أليست وعدا بالزواج؟». تهللت أساريره وطلب من تلامذته الهدوء إلى حين عودته. هرول نحوها ،تبادلا العناق بلهفة العشاق .بالفعل كان سليم يحب أمه حبا غير محدود، فقد كانت بالنسبة له الأب و الأم معا منذ أن توفي الرجل الذي كان يناديه :« أبي ».هو زهرة حب أثمرت ومنها تستمد قوتها فبدونه ستكون حياتها جحيما.( كم مرة قالت لنفسها لولا هذا الولد لما حصل لي ما حصل>. و يبادلها نفس الشعور ،إذ لم تمض أيّة ليلة دون أن يفكّر طويلا فيها ،بل أحيانا تتبلل مآقيه بسبب البعد عنها . أدخلها القاعة ،قدم لها كرسيا وطلب منها أن تنتظره بعض الوقت ،ريثما يكمل الحصة . وفي الوقت الذي انشغل مع تلاميذه انتابتها هواجس متضاربة :ألا زال حيّا ؟ هل تزوج ؟كم له من ولد الآن؟ سرقها الماضي بذكرياته الموغلة في الأعماق ."من يظن أن النّسيان ممكن واهم .ألم تكتب صفحاته. بالدموع و الآهات ؟ ألم تقتلع عواصفه أزهارا و رياحين غرست في تربة الحب الخصبة و سقيت بالدمع الحارّ ؟.من المسؤول عن إجتثات شتلات عشق تشرئبًّ للحياة؟..." استفاقت على صياح التلاميذ وهم يغادرون الفصل.تعانقا من جديد كمعشوقين غابا عن بعضهما لمدة طويلة."كيف حالك ، يا ولدي؟هل إشتقت إلى أمك مثل ما اشتاقت هي اليك؟ لقد صار البيت مهجورا بل خلاء من دونك ،يا قرة عيني .أينما ولّيت وجهي لا أجد غير طيفك يحادثني ،يسر إليّ كما العادة أسراره الصغيرة و الكبيرة .كلما إشتد بي الوجد إليك أنارت طلعتك البهية سراديب فؤادي فأتذكّر ضحكاتك المرصعة جواهر ونكتك المسيلة لدموع السعادة .أذكر يوما أطفأتُ ضوء المصباح ،أغلقت عيني لأنام ،وكان الجو ممطرا،ولكن الكرى عافهما،صرت أتقلّب يمنة و يسرة وكأنني فوق الجمر.عقلي أيضا هجرني ،سافر بعيدا ،بعيدا كنت من خلأله أراك في عملك الجديد و بصحبتك شخص طيب .قلت لي :"أمي ،لا تحزني إني في أيادي أمينة." ، قمت بعدها لأصلي ركعتي شكر للّه على ذلك. ولما تسلل النوم الى فراشي كان آذان الفجر يعلن ميلاد يوم جديد. فاستويت في مكاني أحدثك كما كنّا نفعل في الماضي.وضعت رأسك فوق ركبتي واستسلمتَ لنوم عميق في الوقت الذي أتلمَّس شعرك الحريري، أغنَّي لك أغنيتك المفضلة: وليدي سليم عندو قلب رحيم معيشني ف النعيم وصرت اقول خلال غيابك: وليدي سليم فراقو جحيم حفظو يا لكريم من كل شيطان رجيم لم ينبس ببنت شفة بل كانت نظراته لا تفارق فمها و هي تحكي له .همس لنفسه : «أمي كعادتها لا تكف عن دغدغة مشاعري,إنها تخفي مشاعر أخرى عَنّي .ما هي ؟ لا أعلم.» :« وانت إحك لي كيف وجدت هذه المنطقة؟ كيف هم أناسها؟ هل ضايقك أحدهم هنا ؟ قل لي وأنا اتكفل به. إحك لي كل شيء ،كل شيء.» « أحداث جمة عشتها منذ وصولي. من أين أبدا؟ » وبصوت كله حنان :« منذ وصولك يا حبيبي». « نعم سأحكي لك كل شيء في الطريق ،هيا بنا الآن عند العائلة التي استضافتني منذ اليوم الأول، ترتاحين وسترين بنفسك كل شيء ....». انتهى الفصل: 7 .موعدنا بعد غد مع الفصل :8 { أرجو ترك تعليق عند قراءة كل فصل .شكرا .} عمر بنحيدي. 14/9/2018


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق