الجمعة، 31 يناير 2020

رواية بنت من شاتيلا: حكاية الجرح والغضب والأمل الفلسطيني بقلم الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش ‏ ‏قد لا نحتاج لعذر نحن الأسرى في سجون الاحتلال ‏إذا تأخرنا قليلا في مطالعاتنا ‏للإصدارات الثقافية والسياسية والأدبية ‏التي تصلنا دائما متأخرة ‏أو نتلكأ في إدخالها إلى السجون، ‏غير أنني ولأول مرة ‏أشعر وكأنني تأخرت ‏ولا ألتمس العذر لذاتي لتلكُئي ‏في إدخال رواية بنت من شاتيلا للروائي الفلسطيني المبدع أكرم مسلم. ‏منذ شهور وصديقي الشاعر والناقد فراس حج محمد ‏يحثني على ضرورة مطالعة هذه الرواية. تلكأت قليلا لصالح قراءات أخرى إلى أن صار بوسعي إحضار الرواية وإدخالها من خلال الزيارة إلى السجن فقد أشعل فيّ عنوان الرواية شغفاً في مطالعتها، خاصةً وأنها تحمل عنوانا لإحدى الجراح الفلسطينية التي لا تزال مفتوحةً في الضمير الإنساني، كُنت قد تصورت أنها تروي حكايةً عن شاتيلا وتوقعت فاجعةً تهجس بهول اسمها ولكنني قطعا لم أتخيل أن تشدني من ألفها إلى يائها، لقد كانت ببساطة رواية مذهلة تحمل في طياتها كل ألوان الوجع الفلسطيني، وهي رواية تحمل في باطنها عدة روايات مفتوحة على الزمن الفلسطيني، وتلخص الحكاية الفلسطينية التي كانت ولا زالت وستبقى مُشرعةٌ على كُل احتمال وكل إبداع. فكلما طالعنا أبطال الرواية ‏وكل حدثٍ وكل حكاية هي رواية بحد ذاتها تتمازج فيه المأسآة بالملهاة وتروي مشاهد وفصولا من تاريخنا العربي الغارق في المواقف والممارسات الدنِسة، والرواية هي أزمنة وأمكنة مختلفة ومحطات وأبطال ومواقف ورحلة ضياع موجعة، وإن كانت تروي بتقنية عالية، تلك المذبحة المريعة التي وقعت في مخيمي صبرا وشاتيلا. ولأن الرواية تروي المذبحة فلا بد من ناجي وحيد أو بضعة ناجين من المذبحة، لأن الزمن الفلسطيني المقاتل يأبى الاستسلام للذبح والإبادة الشاملة، ودائما يظل هذا الناجي عنصرا مهما لإكمال الثورة وطريقها وسيظل قدره أن يظهر من بين الجثث ومن وسط الركام ويحمل جرحه ويواصل رحلة الحرية والبقاء وسيظل قدره أن يواجه الأخ والعدو والصديق ويجد له مخرجا من حصار الأنظمة العربية التي تحولت إلى سجون أو ما يشبهها، وتحول الفلسطيني إلى رهينة وسجين (فساعة السجين وساعة السجان تنتميان إلى توقيتين مختلفين، وإن ضبط ساعته على توقيت ساعة السجان خطأ كبير) فلا يمكن ضبط ساعة الحرية مع ساعة القمع، ولا ساعة الصمود مع ساعة الأنظمة المتخلفة المحنطة. وإذا كانت الرصاصات المعادية قد أصابت قلوب الشهداء، فإن رصاصات الإخوان قد أصابت أسماءهم، وصار يتعين على الفلسطيني أن يخوض صراعاً على كل الجبهات ويصبر في معركته صبر الجمال قبل أن ينهمك بصراع داخلي في لحظة طيش ومغامرة ولحظة اقتتال أخّوّي فلسطيني (لأن السياسة أفقدت ثورتنا غريزة الميدان. فارتجت صورة الوطن وفكرة القيادة ليتغذى هذا الصراع الجديد من الهزائم العربية ولم يتعلم من انتصاراته الصغيرة والكبيرة وهو يتقن فن البقاء والصمود. (فالنصر الذي لا يعلمك شيءً عن الهزيمة نصرٌ ناقص)، وكم كانت هزائمنا كثيرة وانتصارتنا منقوصة. ولأننا لا نزال نحيا بالأكاذيب ولم نتعلم أن نتواضع أمام التضحيات، وانتصار شعبنا لشرفه ومقاومته على أعتى الأعداء بالتاريخ، إننا لم نأكل تفاحة الخطيئة وحسب وإنما أكلنا الشجرة كاملة ونحن نغرق في المذابح التي نرتكبها بأيدي بعضنا البعض ثم الأعداء يتفرجون (ففي مجازر تقتل الأُمنيات ويغرق القتلة بالدم طرق المغفرة). إنها رواية موجعة تحثنا على التأمل ولكنها بذات الوقت توقد شمعة في أعماقنا في هذا الظلام العربي الدامس وتزرع فينا الأمل والإيمان بحتمية الانتصار، فنحن شعب عجِز العدو عن إبادته وإقصائه من التاريخ والجغرافيا وأثبتنا أننا لسنا شعباً زائلاً في هذا الشرق الأوسط، بل نحن شعبٌ أصيل استعصى على الإبادة والطمس. وسنواصل رحلة البقاء والصمود والانبعاث من وسط الرماد. إن رواية (بنت من شاتيلا) عمدٌ روائي مبدع يعيد التذكير بشهداء صبرا وشاتيلا، وأن القّتلة الذين لا يزالون يصولون ويجولون لن يطالهم الغفران وستبقى وصمة عار في جبينهم طال الزمان أم قصُر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق